بسم الله الرحمن الرحيم
المكتب الإعلامي لسماحة العلامة التاريخ: 1 ذو الحجة 1440هـ
السيد علي فضل الله الموافق: 2 آب 2019 م
ألقى سماحة السيد الدكتور جعفر فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
من مشكلة حضانة الأسرة إلى مشكلة حضانة الإنسان في هذا البلد، الذي لا يزال يعاني من كثير من آبائه السياسيّين، الذين إنّما جلسوا في مواقعهم لأنّه منحهم ثقته، وأعطاهم وكالة لإدارة شؤونه، بما يرفع من مستوى حياته، ويؤمّن له الفرص التي تكفل له العيش بكرامة، وتعطيه الأمل بمستقبل آمنٍ لأبنائه.
إنّ الشّعب اليوم يرزح تحت الهمّ الحياتي اليومي، وهو في قلقٍ دائمٍ وتعبٍ مستمرّ، بما يجعله يعيش لا تحت خطّ الفقر المادّي فقط، وإنّما تحت مستوى الحدّ الأدنى من الاستقرار النفسي والسكينة الروحية أيضاً.. هذا في الوقت الذي يجب أن يكون المسؤولون في تعبٍ دائمٍ، وسهر مستمرّ، وبذلٍ دائمٍ للجهود لكي يرتاح الإنسان في الحدّ الأدنى.
هل يفكّر كثيرٌ من الآباء السياسيّين كيف سيكون حال أبنائهم من هذا الشّعب عندما يتصلّبون في المواقف لأجل جني منافع شخصيّة، أو يقفون عقبة أمام تمرير مشاريع ترفع الأمراض والأوبئة عن بيئة المواطن، عن مياهه وطعامه وهوائه الذي يتنفّسه، فضلًا عن تعزيز واقعه الاقتصادي والأمني والسياسي على أكثر من صعيد.
ممّا يؤسف له أنّ الحرب الأهلية اللبنانية قد انتهت في معناها العسكريّ، ولكنّها لم تنتهِ على مستوى الذهنيّة، بحيث لم ننتقل إلى ذهنيّة المؤسّسات التي تدير الخلافات بطريقة عقلانية وموضوعية، وبقينا في ذهنيّة الأفراد الذين يستطيعون أن يُشعروك في لحظة أنّ البلد على كفّ عفريت، ويملكون القدرة على تعطيل المؤسّسات الكبرى التي يجب عليها أن تعمل ليلاً نهاراً، لعلّها تستطيع أن تحلّ شيئًا قليلًا من المشاكل المتراكمة، ولا من يشعر بمشكلة أن يتعطّل مجلس الوزراء شهرًا أو شهرين، بانتظار أن تتوفّر الظروف والمناخات لتركيز مصالحة هنا أو هناك.
إنّ حرص القيادات على السّلم الأهلي في لبنان يجب أن ينعكس في حالة طوارئ تحافظ على البلد ومؤسّساته، وتمارس أقصى درجات التجرّد في اتخاذ المواقف، على قاعدة تغليب المصلحة العامّة على المنافع الفئويّة، ولا تتّكل – في الوقت نفسه – على مقولة أنّ لبنان محميّ من أيّ فتنة داخلية بفعل استظلاله بقرار دولي وإقليمي يمنع ذلك، ففي ظلّ التناحر الحاد بين المشاريع المتقابلة في المنطقة، لا يؤمن للبنان أن يبقى بمنأى عنه – لا سمح الله! -.
إنَّنا في هذا المناخ السياسي الداخلي القاسي، والفائق الحساسية في توازناته الطائفية والسياسية، نعبّر عن القلق تجاه ما يمكن أن يثار في الأيام أو المرحلة المقبلة من سجالات حول دستور الطائف، والتي ينبغي أن تُقارب بذهنية علمية وموضوعية تحاكي احترام واقع كلّ المكوّنات، وترتقي بالبلد إلى اعتماد الكفاءة معيارًا أساسيًا لبناء البلد، وليس أيّة معايير أخرى ترتبط بالشكل أكثر من ارتباطها بالمضمون الحقيقي لعمليّة النهوض ومسيرة التطوير.
ومن حضانة الإنسان في هذا البلد إلى حضانة الأمّة، حيث أصبح الإنسان العربي والمسلم مكشوفًا بالكامل أمام المشاريع المصيرية التي أصبحت تحاك وتدار على طريقة الصفقات التجارية بكل أسف، وأوّلها صفقة القرن، في الوقت الذي لا تزال نيران الحروب مستعرة على مساحة المنطقة، وإن كنّا نأمل أن تفضي بعض المبادارت السياسية التي تتحرّك أخيرًا على أكثر من صعيد إلى إنهاء أنهار الدماء والصّراعات، سواء داخل الدول أو فيما بينها، وندعو إلى تفعيلها والانسجام معها، سواء في اليمن أو في سوريا أو في ما يخص العلاقات الخليجية الإيرانية، حتى تتسع مساحة الانفراج السياسي، وننتهي من هذا الاستنزاف الأمني والاقتصادي والسياسي الذي بدَّد كل مواردنا وطاقاتنا، وأن تبدأ ورشة إعمار حقيقيّة لا للحجر فقط، وإنّما لإنسان هذه الأمّة، الذي تشوّه في حسّه الإسلاميّ، في تمثّله لإسلامه كما في علاقته بالمسلم الآخر، وضعُف في نخوته العربيّة التي كانت قاعدة لإقراء الضيف والمبادرات نحو المكارم والفضائل.. حتّى يعود للأمّة بريقها، ولكي تشعر الأجيال التي تلقّت الصدمة الكبرى في كلّ ما جرى في السنوات الماضية، كي تشعر بالأمل من جديد في إمكانيّة نهوض أمّتنا لتكون في موقع الريادة العالمي على أكثر من صعيد.